فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ} من نطفة قذرة مهينة وليس فيه دليل على نجاسة المني.
{فجعلناه في قرار مَّكِينٍ} هو الرحم.
{إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي مقدار معلوم عند الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر.
{فَقَدَرْنَا} أي فقدرنا ذلك تقديراً {فَنِعْمَ القادرون} أي فنعم المقدرون له نحن وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة علي كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي فقدرنا بالتشديد ولقوله تعالى: {من نطفة خلقه فقدره} [عبس: 19] ولقوله سبحانه: {إلى قدر معلوم} [المرسلات: 22] فزاده تفخيماً بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها فقيل فقدرنا ذلك تقديراً أي تقديراً دالاً على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم} [المرسلات: 20] وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام مع المنكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولو سلم فقد قرروا بها بقوله تعالى: {ألم نخلقكم} فتأمل.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أي بقدرتنا على ذلك أو الإعادة.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} الكفات اسم جنس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح:
فأنت اليوم فوق الأرض حي ** وأنت غداً تضمك في كفات

وعن أبي عبيدة تفسيره بالوعاء وقوله تعالى: {أَحْيَاء وأمواتا} مفعول لفعل محذوف لنكفاتاً لأن اسم الجنس وكذا اسم الآلة كما صرح به النحاة لا يعمل أي ألم نجعلها كفاتاً تكفت وتجمع أحياء كثيرة على ظهرها وأمواتاً غير محصورة في بطنها وقيل هو مصدر كالقتال نعت به للمبالغة فلا يحتاج إلى تقدير فعل وقيل جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضاً أو جمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهو الوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وأفرادها باعتبار أقطارها وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول {كفاتاً} المحذوف والتقدير كفاتاً إياهم أو إياكم أو كفاتاً الإنس أحياءً وأمواتاً أو من مفعول حذف مع فعله أي كفاتاً تكفتهم أو تكفتكم أو تكفت الإنس أحياءً وأمواتاً وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذات أحياء وأموات أو على أن المراد بأمواتاً الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وبإحياء ما يقابلها وانتصاب كفاتاً على الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولاً للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة إحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظراً إلى أنه بعض غير محصور كثير في نفسه فلا تغفل واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه وقال ابن عبد البر احتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحي فيكون حرزاً ولا يخفى ضعف الاستدلالين.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابت {شامخات} مرتفعات ومنه شمخ بأنفه ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد {كأشهر معلومات} [البقرة: 197] وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأن في الأرض جبالاً لم تعرف ولم يوقف عليها فارض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلا الله عز وجل وقيل للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف {وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً} أي عذباً وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} بأمثال هذه النعم العظيمة.
{انطلقوا} أييقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انطلقوا {إلى مَا كُنتُمْ به تُكَذّبُونَ} في الدنيا من العذاب.
{انطلقوا} أي خصوصاً فليس تكراراً للأول وقيل هو تكرار له وإن قيد بقوله تعالى: {إلى ظِلّ} هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى: {وظل من يحموم} [الواقعة: 43] وفيه استعارة تهكمية وقرأ رويس عن يعقوب {انطلقوا} بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل {ذِى ثلاث شُعَبٍ} متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش وخصوصية الثلاث قيل أما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدى إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره وقيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم فهناك ثلاثة تكذيبات واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلاً والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل وعن ابن عباس يقال ذلك لعبدة الصليب فالمؤمنون في ظل الله عز وجل وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب.
{لاَّ ظَلِيلٍ} أي لا مظلل وهو صفة ثانية لظل ونفى كونه مظللاً عنه والظل لا يكون إلا مظللاً للدلالة على أن جعله ظلاً تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفى هذا الاحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين {وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب} وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر اللهب شيئاً وعد يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك.
{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)}
{إَنَّهَا} أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمير للشعب {تَرْمِى بِشَرَرٍ} هو ما تطاير من النار سمي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحده شررة {كالقصر} كالدار الكبيرة المشيدة والمراد كل شررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم {بشرار} بكسر الشين وألف بين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة ورقاب فيدل على أن المشبه بالقصر الواحدة وكذا قراءة عيسى {بشرار} بفتح الشين وألف بين الراءين أيضاً فقد قيل أنه جمع لشرارة لا مفرد وجوز على قراءة الكسر أن يكون جمع شر غير أفعل التفضيل كخيار جمع خير وهو حينئذٍ صفة أقيمت مقام موصوفها أي ترمي بقوم شرار وهو خلاف الظاهر وقيل القصر الغليظ من الشجر واحده قصرة نحو جمرة وجمر وقيل قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء واحده كذلك فالتشبيه من تشبيه الجمع بالجمع من غير احتياج للتأويل بما مر إلا أن التهويل على القول الأخير دونه على غيره وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير والحسن وابن مقسم {كالقصر} بفتح القاف والصاد وهي أصول النخل وقيل أعناقها واحدها قصرة كشجرة وشجر وفي كتاب النبات الحبة لها قشرتان التحتية تسمى قشرة والفوقية تسمى قصرة ومنه قوله تعالى: {كالقصر} وهو غريب وقرأ ابن مسعود {كالقصر} بضمتين جمع قصر كرهن ورهن وفي (البحر) كأنه مقصور من القصور كالنجم من النجوم وهو مخالف للظاهر لأن مثله ضرورة أو شاذ نادر وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً {كالقصر} بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة بفتحتين كحلقة من الحديد وحلق وحاجة وحوج وبعض القراء كالقصر بفتح القاف وكسر الصاد وهو بمعنى القصر في قراءة الجمهور.
{كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)}
{كَأَنَّهُ} أي الشرر {جِمَالَتٌ} بكسر الجيم كما قرأ به حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع كما في (البحر) يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر وحجارة والتنوين للتكثير {جمالة صُفْرٌ} فإن الشرار لما فيه من النارية والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف وقيل سود والتعبير بصفر لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ في الارتفاع والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة وقد روعي الترتيب في التشبيه رعاية لترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه بعضها ببعض ومنه قوله:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها ** فدن لأقضي حاجة المتلوم

فالتشبيه الثاني بيان للتشبيه الأول على معنى أن التشبيه بالقصر كان المتبادر منه إلى الفهم العظم فحسب فلما قيل كأنه جمالة صفر وهو قائم مقام التخصيص في القصر تكثر وجه الشبه كأنه قيل كأنه قصر من شأنه كذا وكذا والتشبيه بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة أيضاً والأول هو التحقيق على ما في (الكشف) وعلى الوجهين ليس التشبيه الثاني من البداء في شيء ولا حاجة في شيء منهما إلى اعتبار كون ضمير كأنه للقصر وقد ألم بشيء من حسن ما وقع في الآية من التشبيه وأبو العلاء المعري في قوله في مرثية واحد من الأشراف:
الموقدي نار القرى الآصال ** والأسحار بالإهضام والإشعاف

حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ** ترمي بكل شرارة كطراف

وإن كان قد قصد بذلك المعارضة للآية يكون قد أعمى الله تعالى بصيرته عما فيها من المزية كما أعمى سبحانه بصره وقرأ الجمهور ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه {جمالات} بكسر الجيم وبالألف والتاء جمع جمال أو جمالة بكسر الجيم فيهما فيكون جمع الجمع أو جمع اسم الجمع والمعنى على ما سمعت وقرأ ابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك إلا أنهم ضموا الجيم على أنه جمع جمالة على ما في (الكشاف) وقال في (البحر) هي حبال السفن الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات ثم جمع على جمل وجمال ثم جمع جمال ثانياً جمع صحة فقالوا {جمالات} وقيل هي قلوس الجسور أي حبالها التي تشد بها وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير قالا إنها إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام وعن ابن عباس أيضاً هي قطع النحاس الكبار والظاهر أن التشبيه على هذا باعتبار اللون وعلى ما سبق باعتبار الامتداد والالتفاف وقرأ ابن عباس أيضاً والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ورويس {جمالة} كقراءة حفص ومن معه إلا أنهم ضموا الجيم وهي عند الزمخشري اسم مفرد بمعنى القلس وجمع صفر لإرادة الجنس وقرأ الحسن {صفر} بضم الفاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)}
تقرير أيضاً يجري فيه ما تقدم في قوله: {ألم نهلك الأولين}، جيء به على طريقة تعداد الخطاب في مقام التوبيخ والتقريع.
وكل من التقرير والتقريع من مقتضيات ترك العطف لشَبهه بالتكرير في أنه تكرير معنى وإن لم يكن تكرير لفظ، والتكرير شبيه بالأعداد المسرودة فكان حقه ترك العطف فيه.
وقد جاء هنا التقرير على ثبوت الإِيجاد بعد العدم إيجاداً متقناً دالاً على كمال الحكمة والقدرة ليفضَى بذلك التقرير إلى التوبيخ على إنكار البعث والإِعادة وإلى إثبات البعث بإمكانه بإعادة الخلق كما بُدئ أول مرة وكفى بذلك مرجحاً لوقوع هذا الممكن لأن القدرة تجري على وفق الإِرادة بترجيح جانب إيجاد الممكن على عدمه.
والماء: هو ماء الرجُل.
والمَهين: الضعيف فعيل من مَهُنَ، إذا ضعُف، وميمه أصلية وليس هو من مادة هَان.
وهذا الوصف كناية رمزية عن عظيم قدرة الله تعالى إذ خلق من هذا الماء الضعيف إنساناً شديد القوة عقلاً وجسماً.
وحرف {مِن} للابتداء لأن تكوين الإنسان نشأ من ذلك الماء، كما تقول: هذه النخلة مِن نواة تَوزريَّة.
وجعل خلق الإنسان من ماء الرجل لأنه لا يتم تخلقه إلاّ بذلك الماء إذا لاقى بويضات الدم في الرحم، فاقتصرت الآية على ما هو مشهور بين الناس لأنهم لا يعلمون أكثر من ذلك، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم تكوينَ الجنين من ماء المرأة وماء الرجل.
وقوله: {فجعلناه في قرار مكين} تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإِدماج مع مناسبته لأن له دخلاً في تبيين إمكان الإِعادة إذ شديد القدرة لا يعجزه شيء، ولذلك ذيله بقوله: {فنعم القادرون} على التفسيرين الآتيين.
والقرأر: محل القرور والمكث.
و{مَكين}: صفة ل {قرار}، أي مكان متمكن في ذلك فهو فعيل من مكُن مَكانة، إذا ثبت ورسخ.
ووُصف القرار بالمكين على طريقة المجاز العقلي، أي مكين الحالُّ والمستقرّ فيه.
فالتقدير: مكين فيه.
والمراد بالقرار المكين: الرحم.
والقدَر: بفتح الدال المقدار المعيّن المضبوط، والمراد مقدار من الزمان وهو مدة الحمل.
وقرأ نافع والكسائي وأبو جعفر {فقدَّرنا} بتشديد الدال.
وقرأه الباقون بتخفيف الدال من قَدر المتعدي وهما بمعنى واحد، يقال: قَدَّر بالتشديد تقديراً فهو مُقدِّر، وقدَر بالتخفيف قَدْراً فهو قادر، إذا جعل الشيء على مقدار مناسب لما جُعل له.
والمعنى: فقدرنا الخلق كقوله تعالى: {من نطفة خلقه فقدَّره} [عبس: 19] وقوله: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2].
والفاء في قوله: {فقدّرنا} للتفريع على قوله: {فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم}، أي جعلناه في الرحم إلى انتهاء أمد الحمل فقدرنا أطوار خلقكم حتى أخرجناكم أطفالاً.
والفاء في {فنعم القادرون} للتفريع على (قدّرنا) أي تفريع إنشاء ثناء، أي فدل تقديرُنا على أننا نعم القادرون، أي كان تقديرنا تقدير أفضل قادر، وهذا تنويه بذلك الخلق العجيب بالقدرة.
و{القادرون}: اسم فاعل من قدَر اللازم إذا كان ذا قُدرة وبذلك يكون الكلام تأسيساً لا تأكيداً، أي فنعم القادرون على الأشياء.
وعلامة الجمع للتعظيم مثل نون (قَدّرنا) فإن القدرة لما أتت بما هو مقتضى الحكمة كانت قدرة جديرة بالمدح.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)}
هو نحو ما تقدم في نظيره الموالي هو له.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)}
جاء هذا التقرير على سنن سابقيه في عدم العطف لأنه على طريقة التكرير للتوبيخ، وهو تقرير لهم بما أنعم الله به عليهم من خلق الأرض لهم بما فيها مما فيه منافعهم كما قال تعالى: {مَتاعاً لكم ولأنعامكم} [النازعات: 33].
ومحلّ الامتنان هو قوله: {أحياءً} وأمَّا قوله: {وأمواتاً} فتتميم وإدماج.
وكِفَات: اسم للشيء الذي يُكْفَت فيه، أي يُجمع ويُضَمّ فيه، فهو اسم جاء على صيغة الفِعال من كَفَت، إذا جَمَع، ومنه سُمي الوعاء: كفاتاً، كما سمي ما يعي الشيء وِعَاء، وما يَضُم الشيء: الضِمام.
و{أحياء} مفعول {كِفاتاً} لأن {كفاتاً} فيه معنى الفِعل كأنه قيل كافتةً أحياءً.
وقد يقولون منصوب بفعل مقدر دلّ عليه {كِفاتاً} وكل ذلك متقارب.
و{أمواتاً} عطف عليه وهو إدماج وتتميم لأن فيه مشاهدة الملازمة بين الأحياء والأموات تدلّ على أن الحياة هي المقصود من الخلقة.
وهذا تقرير لهم بالاعتراف بالأحوال المشاهدة في الأرض الدالة على تفرد الله تعالى بالإِلهية.
وتنوين {أحياء وأمواتاً} للتعظيم مراداً به التكثيرُ ولذلك لم يؤت بهما معرَّفين باللام، وفائدة ذكر هذين الجَمْعين ما في معنييهما من التذكير بالحياة والموت.
وقد تصدى الكلام لإِثبات البعث بشواهد ثلاثة:
أحدها: بحال الأمم البائدة في انقراضها.
الثاني: بحال تكوين الإنسان.
الثالث: مصير الكل إلى الأرض وفي كل ذلك إبطال لإِحالتهم وقوع البعث لأنهم زعموا استحالته فأبطلت دعواهم بإثبات إمكان البعث فإنه إذ ثبت الإِمكان بطلت الاستحالة فلم يبق إلاّ النظر في أدلة ترجيح وقوع ذلك الممكن.
وفي الآية امتنان يجعل الأرض صالحة لدفن الأموات، وقد ألهم الله لذلك ابنَ آدم حين قتَل أخاه كما تقدم ذكره في سورة المائدة، فيؤخذ من الآية وجوب الدفن في الأرض إلاّ إذا تعذر ذلك كالذي يموت في سفينة بعيدة عن مراسي الأرض أو لا تستطيع الإِرساء، أو كان الإِرساء يضر بالراكبين أو يُخاف تعفن الجثة فإنها يُرمى بها في البحر وتثقَّل بشيء لترسُب إلى غريق الماء.
وعليه فلا يجوز إحراق الميت كما يفعل مَجُوس الهند، وكان يفعله بعض الرومان، ولا وضعُه لكواسر الطير كما كان يفعل مَجُوس الفرس، وكان أهل الجاهلية يتمدحون بالميت الذي تأكله السباع أو الضباع وهو الذي يموت قتيلاً في فلاة، قال تأبط:
لا تدْفِنُوني إِنَّ دَفني مُحَرَّم ** عليكُم ولكنْ خَامري أُمَّ عامر

وهذا من جهالة الجاهلية وكُفران النعمة.
واحتج ابن القاسم من أصحاب مالك بهذه الآية لكون القبر حرزاً فأوجب القطع على من سرق من القبر كفناً أو ما يبلغ ربع دينار، وقال مالك: القبر حِوَز للميت كما أن البيت حِوَز الحي.
وفي (مفاتيح الغيب) عن تفسير القفال: أن ربيعة استدل بها على ذلك.
والرواسي: جمع راس، أي جبالاً رواسي، أي ثوابت في الأرض قال السموأل:
رسا أصله تحت الثرى وسَمَا به ** إلى النجم فرع لا يُنَال طويل

وجمع على فواعل لوقوعه صفة لمذكر غير عاقِل وهذا امتنان بخلق الجبال لأنهم كانوا يأوُون إليها وينتفعون بما فيها من كَلأ وشجر قال تعالى: {والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم} [النازعات: 32، 33].
والشامخات: المرتفعات.
وعطف {وأسقيناكم ماء فراتاً} لمناسبة ذكر الجبال لأنها تنحدر منها المياه تجري في أسافلها وهي الأودية وتقر في قرارات وحياض وبُحيرات.
والفُرات: العذب وهو ماء المطر.
وتنوين {شامخات} و{ماءً فراتاً} للتعظيم لِدلالة ذلك على عظيم القدرة.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}
تكرير للتوبيخ والتقريع مثل نظيره الواقع ثانياً في هذه السورة.
{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ به تُكَذِّبُونَ (29)}
هذا خطاب للمكذبين في يوم الحشر فهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب بالانطلاق دون وجود مخاطب يؤمر به الآن.
والضمير المقدَّر مع القول المحذوف عائد إلى المكذبين، أي يقال للمكذبين.
والأمر بانطلاقهم مستعمل في التسخير لأنهم تنطلق بهم ملائكة العذاب قسراً.
وما كانوا به يكذبون هو جهنم.
وعبر عنه بالموصول وصلته لما تتضمنه الصلة من النداء على خطئهم وضلالهم على طريقة قول عَبْدَة بن الطَّبيب:
إِنَّ الذين ترَوْنَهم إِخْوَانَكم ** يشْفِي غَلِيلَ صُدورهم أنْ تُصْرَعُوا

وجملة {انطلقوا إلى ظل} إلى آخرها، بدل اشتمال أو مطابقٌ من جملة {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون}.
وأعيد فعل {انطلقوا} على طريقة التكرير لقصد التوبيخ أو الإِهانة والدَّفْع، ولأجله أُعيد فعل {انطلقوا} وحرفُ {إلى}.
ومقتضى الظاهر أن يقال: انطلقوا إلى ما كنتُم به تكذبون ظِللٍ ذي ثلاث شعب، فإعادة العامل في البدل للتأكيد في مقام التقريع.
وأريد بالظل دخان جهنم لكثافته، فعبر عنه بالظل تهكماً بهم لأنهم يتشوقون ظلاً يأوون إلى برده.
وأفرد {ظل} هنا لأنه جعل لهم ذلك الدخان في مكان واحد ليكونوا متراصين تحته لأن ذلك التراص يزيدهم ألماً.
وقرأ الجمهور {انطلقوا} الثاني بكسر اللام مثل {انطلقوا} الأول، وقرأه رُوَيس عن يعقوب بفتح اللام على صيغة الفعل الماضي على معنى أنهم أُمروا بالانطلاق إلى النار فانطلقوا إلى دخانها، وإنما لم يعطف بالفاء لقصد الاستئناف ليكون خبراً آخرَ عن حالهم.
والشُّعَب: اسم جمع شُعبة وهي الفريق من الشيء والطائفة منه، أي ذي ثلاث طوائف وَأريد بها طوائف من الدخان فإن النار إذا عظم اشتعالها تصاعد دخانها من طرفيها ووسطها لشدة انضغاطه في خروجه منها.
فوُصف الدخان بأنه ذو ثلاث شعب لأنه يكون كذلك يوم القيامة.
وقد قيل في سبب ذلك: إن شعبة منه عن اليمين وشعبة عن اليسار وشعبة من فوق، قال الفخر: وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله والقوة الشيطانية في دماغه، ومنبع جميع الآفات الصادرة عن الإنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلاّ هذه الثلاثة، ويمكن أن يقال هاهنا ثلاث درجات وهي: الحِس، والخيال، والوهَم. وهي مانعة للروح من الاستنارة بأنوار عالم القدس اهـ.
والظليل: القوي في ظِلاله، اشتق له وصف من اسمه لإفادة كماله فيما يراد منه مثل: لَيْلٌ ألْيَلُ، وشِعْرٌ شَاعِرٌ، أي ليس هو مثل ظل المؤمنين قال تعالى: {ونُدخلهم ظِلاًّ ظليلاً} [النساء: 57].
وفي هذا تحسير لهم وهو في معنى قوله تعالى: {وظِلَ من يَحموم لا بَارِد ولا كريم} [الواقعة: 43، 44].
وجُرّ {ظليل} على النعت ل {ظل}، وأقحمت {لا} فصارت من جملة الوصف ولا يظهر فيها إعراب كما تقدم في قوله تعالى: {إنها بقرةٌ لاَ فَارض ولا بِكْر} [البقرة: 68] وشأن {لا} إذا أدخلت في الوصف أن تكرر فلذلك أعيدت في قوله: {ولا يغني من اللهب}.
والإِغناء: جعل الغير غنياً، أي غير محتاج في ذلك الغرض، وتعديته بـ (مِن) على معنى البدلية أو لتضمينه معنى: يُبعد، ومثله قوله تعالى: {وما أُغني عنكم من الله مِنْ شيء} [يوسف: 67].
وبذلك سلب عن هذا الظل خَصائص الظلال لأن شأن الظل أن ينفس عن الذي يأوي إليه أَلَم الحر.
{إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)}
يجوز أن يكون هذا من تمام ما يقال للمكذبين الذين قيل لهم: {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون} [المرسلات: 29]، فإنهم بعد أن حصل لهم اليأس مما ينفِّس عنهم ما يَلقون من العذاب، وقيل لهم: انطلقوا إلى دخان جهنم ربما شاهدوا ساعتئذٍ جهنم تقذف بشررها فيروعهم المنظر، أو يشاهدونها عن بعد لا تتضح منه الأشياء وتظهر عليهم مخائل توقعهم أنهم بالغون إليه فيزدادون روعاً وتهويلاً، فيقال لهم: إن جهنم {ترمي بشرر كالقصر كأنه جِمَالات صفر}.
ويجوز أن يكون اعتراضاً في أثناء حكاية حالهم، أو في ختام حكاية حالهم.
فضمير {إنها} عائد إلى جهنم التي دل عليها قوله: {ما كنتم به تكذبون} كما يقال للذي يساق إلى القتل وقد رأى رجلاً بيده سيف فاضطَرب لرؤيته فيقال له: إنه الجَلاّد.
وإجراء تلك الأوصاف في الإِخبار عنها لزيادة الترويع والتهويل، فإن كانوا يرون ذلك الشرر لقربهم منه فوصفه لهم لتأكيد الترويع والتهويل بتظاهر السمع مع الرؤية.
وإن كانوا على بعد منه فالوصف للكشف عن حاله الفظيعة.
وتأكيد الخبر بـ (إنَّ) للاهتمام به لأنهم حِينئذٍ لا يشكون في ذلك سواء رأوه أو أخبروا به.
والشرر: اسم جمع شَرَرَة: وهي القطعة المشتعلة من دقيق الحطب يدفعها لهب النار في الهواء من شدة التهاب النار.
والقَصر: البناء العالي.
والتعريف فيه للجنس، أي كالقصور لأنه شبه به جمع، وهذا التعريف مثل تعريف الكتاب في قوله تعالى: {وأنزلنا معهم الكتاب} [الحديد: 25]، أي الكُتب.
وعن ابن عباس: الكِتاب أكثرُ من الكُتُب، أي كل شررة كقصر، وهذا تشبيه في عظم حجمه.
وقوله: {كأنه جِمالات صفر} تشبيه له في حجمه ولونه وحركته في تطايره بجمالات صفر.
وضمير {كأنه} عائد إلى شرر.
والجِمالات: بكسر الجيم جمع جِمالة، وهي اسم جمع طائفة من الجمال، أي تُشبه طوائف من الجمال متوزعة فرقاً، وهذا تشبيه مركب لأنه تشبيه في هيئة الحجم مع لونه مع حركته.
والصُفرة: لون الشرر إذا ابتعد عن لهيب ناره.
وقرأ الجمهور {جِمالات} بكسر الجيم وألف بعد اللام فهو جمع جمالة.
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلفٌ {جِمالة} بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة.
وقرأه رُويس عن يعقوب {جُمالات} بضم الجيم وألف بعد اللام جمع جُمالة بالضم وهي حبل تشدّ به السفينة، ويُسمى القَلْس (بقاف مفتوحة ولام ساكنة) والتقدير: كأنّ الواحدة منها جُمالة، و{صفر} على هذه القراءة نعت ل {جمالات} أو ل (شرر).
قال صاحب (الكشاف): وقال أبو العلاء (يعني المعري) في صفة نار قوم مدحهم بالكرم:
حَمْرَاءَ ساطعةَ الذوائب في الدُّجَى ** ترمي بكُل شَرارة كطِرَاف

شبه الشرارة بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة وكأنّه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبَجحه بما سُوِّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله: (حَمْراء) توطئةً لها ومناداة عليها وتنبيهاً للسامعين على مكانها، ولقد عَمِي جمع الله له عَمَى الدارين عن قوله عز وعلا: {كأنَّه جمالات صفر} فإنه بمنزلة قوله كبيت أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيهاً من جهتين من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء فأبْعَدَ الله إغرابه في طِرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه اهـ.
وأقول: هذا الكلام ظن سوء بالمعري لم يُشمَّ من كلامه، ولا نسبه إليه أحد من أهل نبزه وملامه، زاد به الزمخشري في طنبور أصحاب النقمة، لنبز المعري ولمزه نغمة.
قال الفخر: كانَ الأولى لصاحب (الكشاف) أن لا يذكر ذلك (أي لأنه ظن سوءاً بلا دلِيل).
وقال الطيبي: وليس كذلك لأنه لا يخفى على مثل المعري: أن الكلام بآخره لأن الله شبه الشرارة: أولاً حين تنفصل عن النار بالقصر في العظم، وثانياً حين تأخذ في الارتفاع والانبساط فتنشقّ عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات في التفرق واللون والعِظَم والثقل، ونُظر في ذلك إلى الحيوان وأن تلك الحركات اختيارية وكل ذلك مفقود في بيته.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)}
تكرير لقصد تهديد المشركين الأحياء والقول فيه كالقول في نظيره الواقع ثانياً في هذه السورة. اهـ.